عن القهر والزواج المبكر والتقاليد: 13 سؤال وجواب

 

 

“إتِباع التقاليد لا يعني أن الأموات أحياء، بل أن الأحياء أموات.”
– إبن خلدون

النص التالي هو مجموعة من الإقتباسات من كتاب “التخلف الإجتماعي: مدخل الى سيكالوجيا الإنسان المقهور” للدكتور مصطفى حجازي، قمت بتجميعها وعرضها على شكل 13 سؤال وجواب في محاولة لمناقشة موضوع يتم الحديث عنه منذ أيام، وهو تشجيع الزواج المبكر ورفض المثلية واعتبارها سلاح يستخدم من قبل المجتمعات الغربية لتدمير المجتمعات العربية والإسلامية. والملفت في الموضوع أن النقاش هو حول أمور تتعلق بحياة الفرد وشؤونه الأسرية.

والتركيز على “انفراط” المجتمعات الغربية “وتدمير” عائلاتها بسبب الإنحلال الأخلاقي و تأخر الزواج والمثلية هي حجج تستخدم دائماً لخلق حاجز بين “نحن” و “هم”، الجماعة الطاهرة والعدو القذر. يساهم ذلك في الترويج لفكرة توحيد الصف الداخلي خلف القيادة للتصدي الى “خطر ما” يهدد الجماعة. ويشهد التاريخ في مناسبات عدة أن هذا النوع من الخطابات ساهم في التحضير لمجازر أقترفتها دول وقبائل وجيوش ضد “الآخر” الغريب.

وبعيداً عن التهويل والتخويف، تُعرّف الأسرة (منبع الأخلاق والقيم في مجتمعاتنا) بأنها مؤسسة اجتماعية في المقام الأول: تنشأ وتستمر نتيجة لعوامل اقتصادية – اجتماعية، ولنظام المِلكية والسلطة. وتضعف الروابط في المجتمعات الصناعية المتقدمة (لأسباب إقتصادية لا علاقة لها بالأخلاق)، كي تختزل الأسرة في خلية صغيرة هي الوالدان والأبناء ذوو العدد المحدود.

 

13 سؤال وجواب:

1- كيف تتم الدعوة الى الزواج المبكر كوسيلة للتمسك بالماضي؟

الإنسان المتخلف كالمجتمع المتخلف سلفي أساساً. يتوجه نحو الماضي ويتمسك بالتقاليد والأعراف بدل التصدي للحاضر والتطلع إلى المستقبل. وتزداد السلفية شدة وبروزاً بمقدار تخلف المجتمع وبشكل يتناسب طردياً مع درجة القهر التي تمارس على الإنسان فيه. وتترسخ السلفية من الناحية الذاتية بمقدار الشعور بالعجز من مجابهة تحديات الطبيعة والمتسلطين، على اختلاف فئاتهم ومراتبهم. […] وفي حين تشكل السلفية إجتماعياً، موجهاً للسلوك، وقانوناً يضبطه، نرى الإنسان المقهور، من الناحية النفسية، يتخذها معياراً لحياته ونظرته الى الوجود.

ويشجع المتسلط الداخلي السلفية تشجيعاً مستمراً لانتشارها وتعزيزاً لمكانتها. لأنها تكرس امتيازاته وتعطيها صبغة الأمر الطبيعي، والقانون الطبيعي الذي يحكم الحياة وبالتالي لا يجوز المساس به من ناحية، وهي تصرف الإنسان المقهور عن النهوض بواجب التغيير.

 

2- لماذا التركيز على التناسل والزواج في العالم المتخلف؟

الأسرة ضمانة من كوارث الطبيعة وحماية من أخطار العدوان الخارجي من خلال كثرة العدد. ولذلك يحتل التكاثر والتناسل أهمية مفرطة في العالم المتخلف. إنه نوع من الدفاع البيولوجي (كثرة الأولاد) ضد غوائل الطبيعة، وما قد يخبئه المستقبل. الأولاد حماية من الأعداء (سياج الأسرة في كثرة عدد شبابها) والأولاد ضمانة الشيخوخة والعوز. والأولاد عزة ومنعة من خلال تعزيز مشاعر الخلود النفسي من خلال الذرية. وفي ذلك كله تعويض عن مشاعر الضعف. […] وهذه الدلالات من أكبر عوامل التعويض عن المهانة الوجودية، التي يرزح تحتها الإنسان المقهور: الاعتزاز بالقدرة على الإنجاب عوضاً عن القدرة على الإنجاز.

والإنتماء الأسري الذوباني وسيلة فعالة من وسائل تصريف العدوانية المتراكمة والنابعة من الإحباطات الوجودية، من خلال ذلك المد العاطفي الدافق الذي يوازن العدوانية التي تهدد بالارتداد إلى الذات وتدميرها، كما تهدد بتفجير مشاعر الذنب المرتبطة بالعجز عن تحقيق الذات من ناحية، ومن خلال تحويل هذه العدوانية بإسقاطها على الأسر – العشائر العدوة، والحرب ضدها من ناحية ثانية.

 

3- هل يمكن إستخدام التقاليد والأعراف كوسائل لقمع الإنسان؟

المجتمع المتخلف، مجتمع تقليدي جامد، متوجه نحو الماضي، يضع العرف كقاعدة للسلوك وكمعيار للنظرة إلى الأمور. والإنسان المتخلف كائن تتحكم به التقاليد وتقيد كل حركة أو انطلاقة نحو المستقبل لديه. فعنصر القهر واضح تماماً في المجتمع التقليدي الذي يمتلك أبناءه ويلغي مبادراتهم. إنه يقولبهم في صيغ جامدة ثابتة.

ويتوسل المجتمع، وخصوصاً الفئة ذات الامتياز فيه، وسائل عديدة لتعزيز التقاليد وفرض الجمود على حركة الفرد وبنية الجماعة. معظم هذه الوسائل ذات طابع قمعي أساساً.

 

4- كيف تساهم التقاليد في زيادة القهر؟

من وسائل القمع تفسير الكون من خلال التقاليد والبنى العلائقية والمرتبية الاجتماعية السائدة، حتى تبدو التقاليد كأنها الطبيعة الوحيدة للحياة، وأن كل مساس بها هو مساس بقوانين الحياة التي لا يحوز أن تمس. فرضوخ المرأة واستعبادها ليسا إستغلالاً لكائن مقهور، بل هما طبيعة المرأة ذاتها، أو هكذا يُصور، وبالتالي فهو أمر طبيعي عليها أن تتقبله كخاصية أساسية من حصائص كيانها البيولوجي.  واستغلال الآباء لأبنائهم والتحكم بمصائر بناتهم والإتجار بهن حق مقدس لا يجوز أن يمس. غنى المتسلط وفقر الكادح، عبارة عن قسمة طبيعية للأرزاق والمقامات، لا يجوز المساس بها وليس من سبيل سوى تقبلها والدفاع عنها.

 

5- لماذا يتم إستحضار الخطاب الديني لمواجهة التغيير في السلوك الإجتماعي؟

ويتوسل المتسلطون الدين، من أجل ترسيخ العرف الشائع الذي يخدم مصالحهم قبل كل شيء. ويعززون سطوة التقاليد من خلال آيات وأحاديث لا مجال للشك فيها، وإلا تعرض إيمان الإنسان المغبون للخطر وأمله الوحيد في عزاء دنيا الآخرة للتلاشي. ولكن اللافت للنظر هو أن المجتمع التقليدي، والذين يمسكون السلطة فيه ويتمتعون بكل الإمتيازات، لا يبرزون من الدين سوى الجوانب التي تؤكد سلطتهم، وتعزز العرف الشائع والنظام المرتبي. وهكذا يصبح كل ما هو عصري يساعد الإنسان على تحرير ذاته وامتلاك زمام مصيره بدعة، وكل توكيد على الحق والعدالة والكرامة وممارستها زندقة. ويتحول الدين إلى سلاح مسلط على المغبونين. وهذا أفعل سلاح لدفعهم إلى الاستسلام والإذعان لأنه يهدد أملهم الأخير في الخلاص والعزاء في ثواب الآخرة. خلاص وثواب يجعلان وحدهما حياة القهر ممكنة.

 

6- ألا يتناقض إنجذاب الإنسان المقهور الى التصريحات المدافعة عن التقاليد مع حاجته للتمرد؟

التمسك بالتقاليد يشكل أوالية دفاعية ضد قلق مجابهة المسؤولية الذاتية. فهي (التقاليد) بما يسبغ عليها من صفات القانون الطبيعي، تتضمن تبريراً للعجز الذاتي عند الإنسان المقهور. فإذا كان راضخاً أو فاشلاً أو بائساً، وإذا كان عاجزاً عن تحمّل تبعة مصيره والنهوض للتحديات التي تطرحها عليه علاقة القهر وضرورة التحرر منها، فليس الذنب ذنبه، بل هو نظام الحياة الذي قسم له دوره وحدد له مكانته.  التمسك بالتقاليد يحمي الإنسان المقهور من مجابهة ذاته، من خلال الهروب نحو الخارج، الذوبان التقليدي والشائع، والإنضواء تحت قانون العرف.

 

7- ما هو دور المرأة في ماكينة التمسك بالتقليد؟

ليس من المستغرب أن تكون المرأة، وهي أكثر العناصر غبناً وقهراً في المجتمع المتخلف، أفصح معبّر عن التقليد، وأشد العناصر تمسكاً بالأعراف، وأكثرها إصراراً على ربط الشرف الذاتي بمعايير الشرف التقليدي. وأكثر ما تتشدد فيه المرأة الأم هو فرض هذه المعايير وتلك النماذج على إبنتها، من خلال الحرب المزمنة والمنظمة التي تشنها على أي مظهر من مظاهر التمرد عند ابنتها.

 

8- كيف يتم تثبيت هذه الميول التسلطية في الأسرة؟

من الناحية العلائقية النفسية، الأسرة العريضة تملكية أساساً. وأهم العلاقات ضمنها من نوع الحب التملكي. الأب يمتلك الأم والأولاد، يحميهم ويؤمن حاجاتهم، ولكنه يقرر مصيرهم وتوجهاتهم الحياتية (في الإعداد للمستقبل والزواج وغيره)، تبعاً لمصلحته ومصلحة الأسرة. والأم تحب أبناءها وترعاهم بشكل تملكي. فهي تتفانى في خدمتهم والسهر عليهم، تقدم نفسها وعطاءها لهم دون تحفظ، شريطة أن تحتفظ بسيطرة خفية عليهم، سيطرة الحب. إنها تقيدهم بواجب الوفاء وعرفان الجميل لذلك الكائن الذي نذر نفسه وبذلها من أجلهم. ومن خصائص الحب التملكي التساهل بكل شيء ما عدا الرغبة في الإستقلال والتوجه نحو التفرد. تلك هي الخطيئة التي لا تساهل فيها، لا من قبل الأم، ولا من قبل الأسرة عموماً، إنها العقوق والخيانة.

 

9- كيف ترد الأسرة على محاولات التحرر عند الفرد؟

تستجيب الأسرة عادة بردود فعل مفرطة في تطرفها لمحاولات الإستقلال هذه، تتخذ مظاهر متنوعة وأساليب متعددة، وتدور كلها حول الترغيب والتهديد والابتزاز: الترغيب بمحاسن البقاء الذوباني في الأسرة وما في ذلك من امتيازات وضمانات (مادية ومعنوية)، والتهديد بالنبذ والحرمان والعقاب والتنكر، وحتى التصفية الجسدية (في حالات البنات اللواتي يتجرأن على تحدي رغبة الأسرة)، وأما الإبتزاز فهو ما تمارسه الأم عادة من إثارة لمشاعر الذنب عند الأبناء الذين أنكروا الجميل وتنكروا للتضحيات وحرقوا حقوق الأمومة.

 

10- هل يمكن خلق شخصية فردية ضمن المجتمع التقليدي؟

لا تقاوم الأسرة الكبيرة الميول الإستقلالية فقط، بل هي تقاوم الفردية ضمنها. ليس هناك قطاع خاص في الأسرة – العشيرة. كل شيء عام ومشاع. الإنسان نفسه ملكية عامة ضمن المؤسسة. كل ميل الى الفردية، الى الذاتية، والعالم الحميم، يفسر كتهديد لتماسك الأسرة وكخروج عن سطوتها. فهي تبسط نفوذها على الأجساد والعقول والعواطف، وهي تتحكم بالعلاقات. وفي ذلك استلاب للشخصية، وصد لأصالتها. وتشتط الأسرة – العشيرة في فرض العمومية والمشاع في كل كبيرة وصغيرة، لا شيء يجب أن يفلت منها، أو يمارس بمعزل عنها. تلك هي مأساة العلاقة التملكية كعلاقة إستلابية. وهي تضم في أحشائها نواة نقيضها الذي لا بد أن يبرز يوماً، من خلال تفجر ما تتضمنه من إحباطات لتوكيد الذات، وتراكم العدوانية المقموعة، وتوق الى الحرية المستلبة.

 

11- هل من مكان للتطور الإجتماعي في ظل هذا الواقع؟

سطوة الأسرة العريضة وتملكها لأبنائها كبيران فهم لا ينشأون لأنفسهم، بل لأسرهم. كل إنجاز حققه أحدهم، كل تقدم مهني أو علمي أو مالي لا يعود أثره عليه فقط، بل هو في المقام الأول وسيلة لزيادة جاه الأسرة وبسط نفوذها. وتشكل الأسرة العريضة بذلك أكبر العقبات إزاء التطور الإجتماعي. فهي تنازع المجتمع على ملكية أبناءها، وتحدد هويتهم أسرياً، بدل أن تحدد هويتهم مواطنياً، بل أن المواطنية ذاتها تتحدد في هذه الحالة أسرياً. الإنتماء إلى الأسرة بهذا الشكل الذوباني يمنع الإنتماء إلى المؤسسات الإجتماعية العامة، ويمنع بروز المصلحة العامة وغلبتها لصالح سيادة مصلحة الأسرة العشيرة. وهذه تسير مع المصلحة العامة طالما خدمت نفوذها وقوتها، وتقوم ضدها عندما تهدد مصلحتها الخاصة وامتيازاتها. إن التغيير الإجتماعي لا يمكن أن يتم من خلال الأسرة العشيرة، إنه يتم تحديداً على حسابها، من خلال تغليب الهوية المواطنية على ما عداها. الأسرة الكبيرة لا تعترف بقيم المساواة والمشاركة والعدالة الإجتماعية والتحرير الذي لا بد منه، كي يكون فعلياً، أن يكون شاملاً لجميع المواطنين على مختلف فئاتهم وانتماءاتهم، وهي لذلك عقبة فعلية أمام التنمية. الأسرة الكبيرة تقود رأساً إلى بروز الإقطاعية في المجتمع الزراعي والقبلي، والرأسمالية البورجوازية في المجتمع الحضري، والطائفية في الحالتين، نظراً لحاجتها إلى العصبية الدينية، إذا استحالت العصبية القبلية، كوسيلة لتماسكها من خلال مناصبة الخارج العداء والحذر، وهي لذلك عقبة أمام التغيير في اتجاه تحرير الإنسان.

 

12- ما هي الوظائف النفسية التي نحصل عليها من خلال الإنتماء الى مجتمع عشائري؟

هذه الأسرة رغم ما تشكله من عقبات أمام التغيير، ورغم ما تضمه أحشاؤها من تناقضات قابلة للإنفجار، تلعب على المستوى الفردي وظائف نفسية هامة. فهي تساعد العناصر الضعيفة، والأكثر عجزاً عن التصدي للأخطار الخارجية (الطبيعية والإنسانية)، والأكثر فشلاً في تحقيق أصالة ذاتية من خلال الإنجازات، على مجابهة واقعها، والتعويض عن مشاعر إنعدام الأمن من ناحية، والهوان الذاتي من ناحية ثانية.

فهي أولا تقدم هوية أسرية لمن لا هوية مهنية أو علمية أو فردية له. من ليس لديه سبب ومصدر للاعتزاز الذاني، يعتز بإسم أسرته. ومن عجز عن الحصول على مكانة مرموقة من خلال الإنتماء إلى المؤسسات الإجتماعية يفخر بمكانة ما في أسرته ضمن عشيرته. من لم يتمكن من النجاح الحياتي كمصدر اعتزاز شخصي، يعتز بحسبه ونسبه، ولو كانت الأسباب الواقعية لهذا الإعتزاز وهمية. فعالية ما يحدث نوع من التباهي بأمجاد الحسب والنسب عند المغبونين من خلال التماهي بالمتسلطين واعتزازهم بانتماءاتهم. أكثر الناس تعلقاً بإسم الأسرة هو إما فرد متسلط يحظى بأكبر الإمتيازات من خلالها، أو فرد مغبون مقهور ليس لديه سوى وهم الإسم.

 

13- كيف يساهم ذلك في غياب الحقوق والخدمات الأساسية للمواطن؟

الأسرة هي الملجأ والملاذ، وهي الضمانة ضد الإخطار الخارجية. إنها تأمين للإنسان المهدد في صحته وسمعته ورزقه وغده، من خلال نظام التعاضد والتعاون الداخلي الذي يشيع فيها. فالإنسان المعدم يمكنه إذا حلت به طارئة ما، أن يلجأ إلى أسرته ويحصل على المساعدات ممن يملكون تقديمها، بدل أن يحظى بالتأمينات والضمانات الإجتماعية التي يستحقها كل مواطن في المجتمعات المتقدمة. كل فرد من أفراد الأسرة – العشيرة يستطين أن يستعين بقوّتها عندما يتهدده خطر خارجي. فالأسرة – العشيرة لا بد أن تهب لنجدته وتنتصر له إذا أرادت أن تحتفظ بسيطرتها عليه. وهو لا يستطيع في غياب الحماية الاجتماعية، الاستغناء عن أسرته وإلا تعرض للهلاك.

بيروت، هرم ماصلو، وحاصلو

يعاني أحمد (28 عاماً) من مرض الطموح… إضافة الى أمراض أخرى لا وقت لتعدادها الآن. مرض الطموح لدى أحمد يتمثل في محاولات دائمة (معظمها فاشلة) لتحسين حياته. ولا ينفك أحمد عن التذكير بأنه لن يحصل على الراحة النفسية ولن تتحسن حياته إلا إذا تحسنت أحوال من هم حوله. يبحث في العلوم والسياسة وما شابه عن الطرق التي ستساعده في الوصول الى مبتغاه.
سافر أحمد لبضعة أشهر الى كوكب آخر وعاد الى بلده المعتاد. وكأي كائن يغيب عن مكان تواجده المعتاد ويعود اليه، لاحظ أحمد أن أمورأ بسيطة وسلوكيات صغيرة كانت تشكل له حاجزاً ضخماً يمنع تقدمه وراحته النفسية. نقطتان أساسيتان تمثلان ملاحظات أحمد الأولية.

بيروت:
النقطة الأولى هي المناخ ولا أقصد بذلك قضية التغيّر المناخي بل “مناخ لبنان المعتدل” كما تعلمنا في الكتب المدرسية. يحتاج الإنسان الى درجة حرارة معينة لكي يعيش بطريقة سليمة. ويشعر أحمد بالبرد خلال فصل الشتاء في بيروت. ربما أكثر من غيره. وهو يملك في الشقة التي يسكن فيها “دفاية” كهربائية متحركة تعطيه بعضاً من الدفء والحنان في حال التصقت يداه بمعدنها الحامي. وهل تعلمون ما هو الشرط الأساسي في مجال التدفئة الكهربائية؟ أنت بحاجة الى الكهرباء! نعم هذا واضح ولكن وَجُب التذكير بذلك. إذ أن أحمد يعيش في منطقة يزورها التيار الكهربائي 12 من أصل 24 ساعة. والرقم 24 يمثل عدد الساعات في اليوم. ونعم وَجُب التذكير بذلك لكي نفهم حجم المشكلة. وفي ال12 ساعة الأخرى، يحصل أحمد على تيار “إشتراك” بقوة 5 أمبير (على إسم المدونة) قد تصل كلفته الى 100 دولار شهرياً. وهذا الإشتراك لا يسمح له بالإستفادة من الدفاية ودفئها. وهنا أيضاً نُذَكِر أن على أحمد أن يشترك في خدمتين لتأمين الكهرباء على عكس باقي دول كوكب الأرض.
لاحظ أحمد أنه يُعَقِد الأمور على نفسه وأن حلاً بسيطاً من شأنه أن يحسن الأمور بعض الشيء. ولاحظ أحمد أنه لم يفكر من قبل بهذا الحل وهذا دليل على أنه “سلّم أمره” سابقاً لـ”الأمر الواقع”. الحل يكمن في شراء “دفاية غاز” تعمل على الغاز كمصدر طاقة بدلاً عن الكهرباء. الله الله على الطاقة البديلة عن دولة بلا طاقة. الدفء الذي تقدمه دفاية الغاز أقوى من دفء الكهرباء وستكلف الدفاية الجديدة أحمد حوالي 150 الف ليرة إضافة الى 20 ألف ليرة شهرياً لتزويدها بالغاز.
حسناً، الحياة حلوة، ولكن يتوجب على أحمد أن يعالج الآن المعضلة الثانية التي تهز عرشه ووجدانه: الوصول الى الطعام.
يقضي أحمد جزءاً كبيراً من وقته في مكان عمله ويأكل بفضل خدمات التوصيل التي تقدمها المطاعم. والنتيجة هي أنه ينفق الكثير من المال على الأكل الجاهز وغير الصحي.  يطمح أحمد، ومرضه كما أشرنا سابقاً هو الطموح، أن يحضر أكله في منزله فينفق مالاً أقل ويأكل طعاماً شهياً وصحياً بدل “الديليفري” كل يوم.
إلا أنه يواجه مشكلة الوصول الى سوبرماركت تتوفر فيها كافة حاجياته. وأحمد صراحة بليد بعض الشيء وينهار طموحه بسرعة فيتنازل ويقوم بطلب بعض الوجبات السريعة. والسبب هو أنه لا يملك سيارة ولا يجد وسيلة عملية للوصول الى السوبرماركت البعيد، إضافة الى زحمة السير الدائمة على الطرقات وشعوره بالإرهاق بعد عودته من منزله.
إلا أن القدر قدّم له حلاً لمعضلته: خدمة طلب البقالة والمواد الغذائية على الإنترنت وتوصيلها الى منزله من دون أي كلفة إضافية. لا ضرورة بعد الآن للتنقل والانتظار في زحمة السير للحصول على غذاء صحي. هكذا استطاع أحمد ان يطبخ ويأكل في منزله ويحسّن صحته.

ماصلو:
بعد أن وجد حلاً للمعضلتين البسيطتين اللتين تؤثران على حياته اليومية، لاحظ أحمد الأمر التالي: يحدد هرم “تسلسل ماصلو للإحتياجات” أن المشاكل التي يعاني منها تقع في أدنى مستوى من الهرم، وهو هرم الإحتياجات الفيزيولوجية: الطعام، المأوى، الدفء… ولا يمكن للإنسان أن يحقق الحاجات العاطفية والإجتماعية والشعور بالقيمة الشخصية وحب الذات (وهي المستويات الأعلى في الهرم) قبل أن تتأمن الحاجات الفيزيولوجية (الغذاء والدفء).
أي نقص في تأمين هذه الحاجات الفيزيولوجية يعني بطبيعة الحال تراجعاً في حالة الإنسان النفسية والجسدية. وللتذكير بأهمية هذا الموضوع، نشير أنه وفي حال حدوث كوارث طبيعية، أول ما يتم العمل عليه هو تأمين او تخزين المواد الغذائية والكهرباء للحفاظ على الأرواح الى حين إجلائهم.

حاصلو:
بالعودة الى كوكب لبنان، يلاحظ أحمد أن ما يعيشه في لبنان يشبه الكارثة حسب تعريف “الكارثة” في دول أو كواكب أخرى. فالتيار الكهربائي الضروري للتدفئة متوفر لفترات محدودة ومتقطعة. والتنقل على الطرقات يشبه المعركة من أجل البقاء في ظل غياب طرقات آمنة ونقل عام يمكن التعويل عليه.
لاحظ أحمد أنه استطاع تحسين حياته بتعديلين بسيطين عليها. إلا ان قسماً كبيراً من مجتمعه غير قادر على إحداث تغيير في حياته، وللوضع المادي دور أساسي في ذلك. فقسم كبير من المجتمع عالق الآن في أسلوب حياة يصعب تعديله على المستوى الفردي، والأصعب الإشارة اليه كأزمة إجتماعية يجتمع حولها الأفراد كفريق واحد ويطالبون بتغييرها.
ولاحظ أحمد أيضاً (وهو شديد الملاحظة وفائق الذكاء كما تعلمون) أنه قدّم حلولاً بديلة ومؤقتة هي من واجبات ومسؤولية الدولة (السلطة، الحكومة، الإدارة العامة، الشو إسمو)، وأن “الدولة” وُجدت لتأمين هذه الإحتياجات الأساسية للإنسان. من واجب الدولة أن تؤمن لأحمد مصادر طاقة دائمة وبسعر معقول. من واجب الدولة أن تسهل تنقل أحمد على الطرقات والوصول الى الخدمات والمرافق من خلال النقل العام المريح والسريع.
بكل بساطة، فإن دولة أحمد غير قادرة على تأمين الحاجات الأساسية للإنسان.
حاصلو، يقول أحمد: خرى عليكم أصبحنا في العام 2017 يا دولة الخرى. عشتم وعاش لبنان

الفضل للي جامعنا.. الفضل للمرحوم: الشخصية السلطوية في الإنتخابات البلدية

لو خضت البحر لخضناه معك
لو خضت البحر لخضناه معك

اجتاحت منذ حوالي الأسبوعين صور المرشحين والشعارات السياسية اللوحات الإعلانية المنتشرة على الطرقات. لوحات إعلانية اعتادت الترويج للمنتجات الاستهلاكية من وجبات سريعة وفوط صحية وسيارات دفع رباعي من دون دفعة أولى.

كلما ابتعدنا عن العاصمة بيروت أو المراكز السكانية الأساسية، إنخفض مستوى الدعاية الإنتخابية والإنفاق عليها حتى يخيّل لنا في بعض الحالات أن اليافطة هي مزحة أخذها المرشح على محمل الجد. في بلدة بيت شاما البقاعية تعلو صورة لمرشح طاعن في السن يجلس على كنبة ويظهر على جسده التعب، وتحت صورته عبارة “لو خُضت بنا البحر خضناه معك”. وإذ بك تضحك ثم تخاف عليه وعلى ناخبيه في حال قرر المرشح للمقعد البلدي أن يشتري مركباً ويخوض البحر. واللافت هنا أصل عبارة “لو خضت بنا البحر” وهي لسعد بن معاذ، أحد صحابة نبي المسلمين محمد، والذي كان يوجه كلامه الى محمد.

متابعة قراءة الفضل للي جامعنا.. الفضل للمرحوم: الشخصية السلطوية في الإنتخابات البلدية

من طانيوس شاهين الى موراي بوكشين

ocalan

تنويع أول: حركة طانيوس شاهين

أذكر إني قرأت لأول مرة عن مفهوم “بيئي لا مركزي” للحكم، بعد زيارتي لصفحة “حركة طانيوس شاهين” التي ظهرت خلال حراك النفايات على فايسبوك، وما بعد بعد فايسبوك. وتقول الحركة أنها تسعى الى المساواة بين الرجل والمرأة في الحكم. لم تجذبني الحركة. استسخفتها، هزأت منها. لم أتمعن أصلاً في الفكرة وتبعات أن يكون الحكم “بيئياً” رغم دعمي لكل ما يشجع على اللامركزية. السبب الأساسي لنفوري اللامنطقي هو بعض الأشخاص المنضوين داخل الحركة. وهناك احتمال كبير بأنني أملك أحكاماً مسبقة تجاه هؤلاء الأشخاص، مثلما حكمت بالإعدام على مفهوم “البيئي اللامركزي”.
كما أنني أملك احكاماً مسبقة تجاه طانيوس شاهين نفسه. الشخصية التاريخية التي قيل أنها قادت “ثورة الفلاحين” ضد الإقطاع في جبل لبنان منذ حوالي قرنين من الزمن. أعتبر طانيوس وثورته مثال على متابعة قراءة من طانيوس شاهين الى موراي بوكشين

زيارة ثانية لشجرة الفاصولياء العجيبة

beirut5mickey

“العلاقة بين الأم والطفل هي علاقة تناقضية، وإلى حد ما مأسوية. فهي تتطلب الحب الشديد من جانب الأم، ولكن على هذا الحب أن يساعد الطفل على النمو بعيدا عن الأم، وأن يصبح مستقلاً بشكل تام”.
– اريك فروم، المجتمع السليم (1955)

لعل معظمنا شاهد أكثر من مرة قصة “جاك وشجرة الفاصولياء” من إنتاج استوديوهات ديزني (ميكي وشجرة الفاصولياء، 1947) على شاشة التلفاز. لعل كثراً منّا يستذكر من فترة إلى أخرى كيف كان يستلقي على الأرض لساعات محدقاً في الشاشة إلى حين انتهاء “فترة الأطفال” على القناة المحلية. ولا ننسى أبداً العلاقة التناقضية بين الوقت المطلوب لإنجاز الفروض المنزلية من الإنشاء والإملاء متابعة قراءة زيارة ثانية لشجرة الفاصولياء العجيبة

كم من “أليكسي” خطف أحلامنا؟

beirut5alexy

“وأجمل رحلاتنا في القطار الذي فاتنا”

يوم عادي آخر. جلسة تمتدّ لساعات أمام شاشة الحاسوب. هذه هي ضرورات المهنة، وضرورات الإدمان على الشبكة. أبحث عن جزيرة “كريسماس” الأسترالية، بعد أن قرأت خبراً عن عصيان قام به سجناء ولاجئون عرب وآسيويون وُضعوا في هذه الجزيرة. يقول الخبر إنّ اللاجئين سيطروا لفترة وجيزة على الجزيرة. نعم “جزيرة كريسمس”. اسم جميل لمكان حزين. أبحث عن صور جديدة للاجئين هناك، مستعيناً بتطبيق Yomapic يساعد في البحث عن صور وشرائط فيديو مستنداً إلى المنطقة الجغرافية. لم أتوفق بالكثير من الصور. متابعة قراءة كم من “أليكسي” خطف أحلامنا؟

ما معنى أن تكون ليبرالياً في تظاهرات بيروت

liberal economy

تُظهِر الليبرالية، الملاك البريء أبو قلب طيّب قوي، يوماً بعد يوم أن قيمها ومثلها العليا تتناقض مع الواقع الذي أنتجته. إذ تحولت المفاهيم الإقتصادية الليبرالية الى أضدادها في الممارسة. أدّى التبادل الحر متابعة قراءة ما معنى أن تكون ليبرالياً في تظاهرات بيروت

أبيع نفسي: كيف تكسب أو تخسر الشارع

المواطن الحراك

هناك فرق شاسع بين دعوة شخص لشراء منتج وتجربته، وبين إرضائه وإقناعه بشراء المنتج مجدداً. ما يحصل في التحركات الإحتجاجية حالياً في لبنان لا يزال في مرحلة دعوة شرائح المجتمع الواسعة الى “شراء” منتج تتراوح ميزاته بين حل لمشكلة الزبالة وتغيير شامل للسلطة الحاكمة.

قد تكسب دعم بضعة آلاف من المواطنين في قضية النفايات، وتعاطف قسم أكبر لا يزال يشاهدك على التلفزيون. إلا أن هؤلاء لم يتحولوا بعد الى كتلة واضحة تتبنى وتجهد من أجل تحقيق المطالب. قسم كبير من اولئك الذين شاركوا في المظاهرات سينسحبون قريباً لأسباب عديدة منها شعور بالفشل او الإرهاق او الإنزعاج من حالات وتصرفات يرفضونها.

لن يشتري اولئك منتجك مجدداً في المستقبل القريب. فأنت لم تنتصر ولم ترضيهم في ميزة “حل مشكلة النفايات”، فكيف لهم أن يشتروا منتج التغيير الشامل؟ متابعة قراءة أبيع نفسي: كيف تكسب أو تخسر الشارع

في إيجابيات أن تكون شبحاً

 

مسافرون تكيّفوا مع مدينة تكيّفت مع الصحراء
مسافرون تكيّفوا مع مدينة تكيّفت مع الصحراء

 

“لا شك أن اشتياقي الى السفر هو تعبير عن رغبة في الهروب من الضغط، وهو مماثل للقوة التي تدفع هذا العدد الكبير من المراهقين الى الإبتعاد عن منزل أهلهم. كنت قد رأيت بوضوح منذ فترة طويلة أن جزءاً كبيراً من متعة السفر تكمن في تحقيق هذه الرغبات المبكرة، التي يعود أصلها، في عدم الرضا عن البيت والأسرة. متابعة قراءة في إيجابيات أن تكون شبحاً

صباح… لبنان الذي نبحث عنه

sabah

“آخر مرة شافوها، بكيت ضيعتنا، ضيعتنا كلا”

في كل مرة يموت فيها رمز من رموز لبنان، نستذكره بعبارات الفولكلور المعتادة: مياه العين واﻷرزة والجبل والضيعة والكبة النية واﻹغتراب وقطعة السما. وكلما دمرنا لبنان، نستذكر تشكيلة الفولكلور ذاتها ونردد نفس اﻷغاني والشعارات في حب الوطن. لبنان الكبة النية هو نفس لبنان الذي تُعَنَف وتُقتل نسائه بإسم التقاليد. ولبنان الضيعة هو نفسه الذي يدمر اﻷبنية التراثية التي يتغنى بها بحجة اﻹزدهار وتحريك عجلة اﻹقتصاد. هذا الـ”لبنان” انتهى منذ أكثر من 40 عاماً، وبقيت منه رواسب مظلمة من الكبت والعنف واللاتسامح المتراكم من جيل الى جيل. متابعة قراءة صباح… لبنان الذي نبحث عنه