نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” مؤخراً مقالاً اعتبرت فيه “أننا نشهد ظاهرة جديدة تضرب صميم الرأسمالية رغم أنها ناتجة عن ديناميته، مهددة مستقبل هذا النظام”. هذه الظاهرة تتلخص في فكرة أن “دينامية السوق استطاعت تخفيض كلفة السلع والخدمات لتصل الى سعر منخفض جداً حتى أصبحت بعضها مجانية في كثير من الحالات”.
إذ بدأ المستهلك، الذي من المفترض ان يبقى دوره محدوداً بشراء السلع والخدمات واستهلاكها، بدأ بمشاركة ما يمكله من معلومات وخبرات ومواد ترفيهية على شكل نصوص وملفات صوتية وفيديو مجاناً، متخطياً الفكرة التقليدية للسوق، من دون الإضطرار الى شرائها ودفع ثمنها للشركة المنتجة.
وأدى الإنخفاض الكبير في كلفة السلع الى تهديد هذه القطاعات الإنتاجية وإعادة بناء قطاعات عدة من بينها الطاقة والترفيه والتعليم.
الريادة الإجتماعية (Social Entrepreneurship)
ولكن نظرية أخرى غابت عن المقال تقترح التالي: أن نهاية الرأسمالية ليست قريبة. وتستند هذه النظرية الى فكرة أن الرأسمالية هي نظام “ليّن وقابل للتكيف مع المتغيرات”، والنجاة من الكوارث الكبرى (حربين عالميتين وأزمات اقتصادية عالمية).
ومع أن التهديد الجديد للرأسمالية المتمثل بالمشاركة بدل الإستهلاك حصراً، انبثق من دينامية السوق وقدرته على خفص الأسعار الى مستوى “المجانية”، فإن هجوماً مضاداً وُلد حديثاً في صميم السوق أيضاً وأصبح حيز التنفيذ وهو: social entrepreneurship أو ريادة الأعمال الإجتماعية.
يمكن تلخيص “الريادة الإجتماعية” بفكرة “طرح حلول جديدة ومبتكرة للمشكلات الإجتماعية”. فيضع الرائد الإجتماعي خطة لخلق مشروع ذات قيمة إجتماعية. وهي خليط من مجالي إدارة الأعمال التجارية والأعمال غير الربحية. فيبحث رائد الأعمال عن الربح المادي مضافاً اليه قيمة إجتماعية لما حققه.
نرى في هذا التوصيف تشابها كبيراً مع المنظمات “غير الربحية” (Non-profit Organizations) المنتشرة في عالمنا العربي وفي شتى أنحاء العالم. والفرق بين الإثنين، أن الربح المادي، بدل أن يكون مُقَنَعاً عبر مداخيل خاصة ورواتب للموظفين و”تنفيعات”، يصبح علنياً كربح شرعي للشركة، على أن تقدم هذه الشركة شيئاً ما للمنفعة العامة.
نشأت الريادة الإجتماعية على “جثة” المنظمات غير الربحية، التي اصبحت رمزاً للهدر. وهي تفتقر الى أي قدرة فعلية لتقديم قيمة إجتماعية تنموية. والمنظمات غير الربحية هي ايضاً ابنة منظمات عالمية كالأمم المتحدة ومشاريع التنمية المستدامة في العالم الثالث. ويعتبر كثير من العاملين فيها ان “القسم الأكبر من المال يذهب في خدمة البيروقراطية الضخمة لهذه المؤسسات”، في حين يذهب القسم الأصغر الى التمويل المباشر لمشاريع تنموية أثبتت عدم قدرتها في كثير من الحالات على تحقيق تنمية مستدامة. ولم نحصد منها الا على مجموعة من المصطلحات الجديدة لنضيفها الى القاموس مثل “الرأسمال البشري” و “القيمة الإجتماعية” و”التنمية المستدامة”.
وإعادة التسليع هي ضرورة في منطق السوق: بيع نفس المنتج أو الخدمة بإسم وصورة مختلفة بعد فشل المنتج السابق.
ولكن كيف تمّ حقن هذه الفكرة الجديدة في النظام؟. الحقيقة هي أن “الريادة الإجتماعية” أصبحت إختصاصاً جامعياً، وظهرت صناديق تمويل كبرى، هي خليط من مال الحكومات والشركات الضخمة، لتمويل مشاريع تجارية “جديدة” ذات منفعة “جماعية”. وبذلك تكون المنظومة الرأسمالية قد هيّئت “المهارات” الجديدة و”التمويل” لكل من يريد الدخول في هذا القطاع الإقتصادي الجديد.
عامل القوة الأساس في هذه القطاع الجديد- القديم هو الإنترنت. الإنترنت هو البنية التحتية لأي مشروع إنساني مستقبلي. إلا أن الشركات والحكومات تحاول الإستفادة من الإنترنت لخدمة منطق السوق والحفاظ عليه، مع ان الانترنت يسمح للجميع بالتواصل والتكاتف والتعاون خارج مبدأ السوق، كمجموعات تعاونية لا مركزية وغير موجهة “من فوق”.
كما يقدم الإنترنت بـ لا-مركزية المعرفة، المتناقضة مع مركزية السوق ومبدأ العرض والطلب، قاعدة بيانات ضخمة تساهم في تحسين انتاجية المؤسسات. وهذا ايضاً امر يهدد قطاعات مثل الـbusiness intelligence والindustrial intelligence اي التجسس التجاري والصناعي والتي تستخدمها الدول والشركات الكبرى للحصول على معلومات سرية وخاصة لإقتصاد الدول الأخرى والشركات العالمية. أي أن الهدف من الريادة الإجتماعية هو الاستفادة من هذا الكنز المتاح للجميع وإعادة ادخاله الى حظيرة السوق ورأس المال.
هنا نطرح سؤالاً آخر: ما الضرر إذا توفرت شركات تبحث عن الربح المادي وتقدم منفعة إضافية للمجتمع؟، طبعاً نحن لا نزال نعيش في عالم نحتاج فيه الى مدخول مادي لتغطية حاجاتنا المادية، لكن العولمة الإقتصادية تقوّض وتضعف الديمقراطية، وتحول المواطن في المجتمع الى مستهلك في السوق.
وهكذا تبقى استمرارية الشركات أولوية أمام مصلحة الإنسان. ولذلك، فإن الإبقاء على النظام الإقتصادي على ما هو عليه، وتزيينه بمفاهيم كـ”الريادة الإجتماعية” لا تقلل من شر هذا النظام ولا تمثل سوى إستراتيجية اضافية لإستيعاب التغيير الحاصل في العالم وإطالة عمر النظام الرأسمالي والسوق.
مجتمع “نشارك”
لطالما طرح مفكرون نظريات إشتراكية ولاسلطوية متنوعة تدور حول فكرة التعاون ومشاركة الثروات. فشلت هذه النظريات في طرح تطبيقات فعلية ناجحة على الأرض والإفلات من قبضة السوق. الا ان تغييراً ما يحصل حالياً.
ينتقل العالم حالياً من العصر الصناعي (الذي بدأ مع الثورة الصناعية في القارن الثامن عشر) الى عصر المعلومات مع تطور تكنولوجيا الإتصالات والإنترنت تحديداً. وبدأت تظهر مفاهيم مثل “مجتمع المشاركة” و”الإقتصاد التشاركي”، إذ تعلو قيمة الفرد بناءً على ما يشاركه مع الآخرين بدل أن يكون مبنياً على ما يتسحوذ عليه من “ممتلكات مادية”. لتبسيط الفكرة، أستذكر عام 2000، حين كنت أجمع الملفات الموسيقية على حاسوبي الشخصي ولا أشاركها مع غيري (إنطلاقاً من فكرة أنني أملك موسوعة موسيقية أكبر من أصدقائي). إلا أننا الآن نستمع الى أي أغنية على الإنترنت، وأصبح تكديس الموسيقى على الحاسوب عملاً من دون قيمة. فبتنا نشارك على الإنترنت ما نمكله، ونعلو في محيطنا بقيمة المواد التي نشاركها ويستفيد منها الآخرون. ودليل على جديّة ما يحصل، نشير الى الحملة العالمية التي تقودها الشركات بدعم من الحكومات لمنع مشاركة الموسيقى والأفلام على الإنترنت بإعتباره تهديداً لهذا القطاع الإقتصادي الضخم.
وأصبح تبادل العديد من المواد يتم بين الأفراد بصفتهم منتجين ومستهلكين في نفس الوقت، بعد أن كانت العلاقة سابقاً محصورة بعلاقة التاجر والمستهلك.
هذا التغيير في “الزمن الرقمي” أدى الى نسب ملحوظة من اللا-مادية في المجتمع ( dematerialization of society). وأظهرت دراسات أن المستهلكين الشباب لا يهتمون بإقتناء وإظهار ممتلكات مادية كان لها أهمية أكبر لدى جيل آبائهم وأمهاتهم. (بإستثناء الهاتف الذكي وظاهرة الآي فون).
والسؤال يطرح نفسه: كيف يؤثر ذلك على مستقبل ثقافة الإستهلاك؟، وهل سنبقى على تعريف جيلنا بأنه “مادي” وهو يمارس المشاركة يومياً على الإنترنت؟، وما الذي سينبثق من جيل حوّل فكرة “الأعمال الخيرية” الكلاسيكية الى مفهوم “التمويل الجماعي” (crowdfunding) الحديث؟، وكيف سيؤثر ذلك في المستقبل على معنى “الملكية”، والتي تمثل جوهر الفكرة الرأسمالية؟
ما الحل؟
شخصياً، لا أطرح حلاً شاملاً أو خطة كاملة، لكن الحل يبدأ بعدم الإنبهار بالتسليعات الجديدة كـ”الريادة الإجتماعية”، بل بالبحث عن “مشاريع القاعدة” (grassroots project) من تعاونيات ومؤسسات يشارك الجميع في خططها، ويستفيد الجميع منها. وإذا كانت هذه الهيكلية غير قابلة للتنفيذ حالياً في بعض المشاريع، فلا ضرر في المنفعة المادية ما دامت ملتزمة بخطوط عريضة تحررها من المنطق الرأسمالي، فلا يكون مبدأ “العرض والطلب” أساس المشروع ومحركه.
يمكن إستخدام أدوات من إنتاج تشاركي “غير تجاري”، مثل التطبيقات مفتوحة المصدر (open source software)، وإتباع خطط عمل تصب أولاً في مصلحة الإنسان والكوكب وتخفف الهدر الذي يؤذي عالمنا. ويمكن البحث عن “التمويل المشترك” بدلاً من تلقي التمويل من مؤسسات خاصة او مصارف تجارية. ولا تكون هذه الخطط “الجديدة” أساليب تسويقية لجذب المال، بل تبقى في صميم المشروع وقانونه الأساس.
كما يمكن إعادة استخدام وتدوير الموارد والسلع وتناقلها بين بعضنا. إذ تنتشر حالياً شبكات تبادل ومشاركة السكن والمكاتب والسلع والملابس والسيارات، والتي اصبحت تشكل اقتصاداً خاصاً وصلت قيمته في اوروبا وأميركا الى بلايين الدولارات.
كما أنه من الضروري إعطاء المجتمع (الذي يفترض أن يكون مستفيداً من المشروع) دوراً في المشاركة بإتخاد القرارات وإقتراح رؤية مستقبلية للمشروع.
والأهم عنصرا النزاهة والشفافية: أن تكون متصالحاً مع نفسك في مشروعك وصريحاً مع الآخرين. أي أن تظهر لهم أين يتوقف ربحك المادي، وأين تبدأ الإستفادة المجتمعية من مشروعك.
“الرأسمالية تحفر قبرها بيدها”، ولكنها تعود الى الحياة في كل مرة وترمينا في “مقابر السوق”.