هناك فرق شاسع بين دعوة شخص لشراء منتج وتجربته، وبين إرضائه وإقناعه بشراء المنتج مجدداً. ما يحصل في التحركات الإحتجاجية حالياً في لبنان لا يزال في مرحلة دعوة شرائح المجتمع الواسعة الى “شراء” منتج تتراوح ميزاته بين حل لمشكلة الزبالة وتغيير شامل للسلطة الحاكمة.
قد تكسب دعم بضعة آلاف من المواطنين في قضية النفايات، وتعاطف قسم أكبر لا يزال يشاهدك على التلفزيون. إلا أن هؤلاء لم يتحولوا بعد الى كتلة واضحة تتبنى وتجهد من أجل تحقيق المطالب. قسم كبير من اولئك الذين شاركوا في المظاهرات سينسحبون قريباً لأسباب عديدة منها شعور بالفشل او الإرهاق او الإنزعاج من حالات وتصرفات يرفضونها.
لن يشتري اولئك منتجك مجدداً في المستقبل القريب. فأنت لم تنتصر ولم ترضيهم في ميزة “حل مشكلة النفايات”، فكيف لهم أن يشتروا منتج التغيير الشامل؟
أن تكسب شرائح المجتمع “كلّن” تحت قيادتك هو حاجة ملحّة حالياً اكثر من تعليق المشانق للزعماء بصيغة “كلّن يعني كلّن“. فكيف تكسب هذا المجتمع ليحتضنك متى واجهتك السلطة بالعنف وليطالب بحريتك متى سُجنت؟
كلّن يعني كلّن…
إن مواقف مثل “كلن يعني كلن” او “كل الشعب مذنب” كإعتراف شامل بالأزمة تعني أن ليس هناك مذنب وأن الكل مشارك بالفساد كنشاط طبيعي في المجتمع. وتقول المنظرة السياسية حنّة أرندت إن “الإعتراف بالخطيئة الجماعية لهو أفضل طريقة ممكنة للحيلولة دون اكتشاف المذنبين الحقيقيين، كما أن ضخامة الجريمة نفسها تُعتَبَر خير عذر لمن لا يريد أن يفعل شيئاً.” (مثال على التعابير الشعبية: هيدا البلد كل عمرو هيك ورح يضلو هيك، كل شي في فاسد، ما فيك تغيرو). وهذا التعميم يعني أن الكل مسؤول، حتى المواطنين. أي أن الشعب بغالبيته الساحقة مسؤول عن دفع رشوى في دائرة عامة، او استخدام الواسطة لتأمين وظيفة متواضعة، أو رمي المهملات على الطريق، الخ.
واللافت هنا خطاب المتظاهرين و”قادة” التظاهرات الذين تغلغل فيهم منطق “كلّن” حتى بتنا غير قادرين على تصوّر أسماء ووجوه لأؤلئك المسؤولين عن تردّي الخدمات الأساسية في بلدنا. بتنا غير قادرين أيضاً على تصور مواطن واحد قد نسمح له بالمشاركة في التظاهرات حسب ايتيكيت تتطلب منه أن يتخلى عن كل الميول والتوجهات السياسية والمناطقية والطائفية التي تراكمت في ذهنه على مرّ السنين.
وكان لافتاً أيضاً بداية شهر أيلول بيانات رسمية لعدة أحزاب استنكرت فيها “تعميم الفساد” على جميع القوى السياسية و “ومساواتها بين بعضها” لناحية درجة الانخراط في دولة الفساد العميقة. وهذه التصريحات هي واحدة من المواقف القليلة التي كانت لتخدم الحراك وتصحح جزءاً من خطابه السياسي لو أخذت بجديّة.
قلّ لي متى تغضب؟
ولكن، “قل لي متى تغضب؟” هذه عبارة كانت تتكرر على تلفزيون المنار لسنين في فيديو ترويجي يُعرَض كلما هاجمت الشرطة الإسرائيلية والمستوطنون المسجد الأقصى في القدس المحتلة. إلا أن البؤس أو الوضع السيء ليس سبباً كافياً للغضب. ولذلك، ورغم الترويج لهذه الفكرة لسنين على التلفزيون، لم يغضَب العرب والمسلمون نصرة لفلسطين.
تقول أرندت في كتابها “في العنف”: “ليس الغضب، بأي حال من الأحوال، رد فعل تلقائي تجاه البؤس والألم. فما من أحد يتصرف تصرف الغضب ازاء داء لا دواء له او إزاء هزة أرضية او إزاء أوضاع إجتماعية تبدو له غير قابلة لأي تغيير. يطلع الغضب فقط حين تكون هناك احتمالات لحدوث تبدل في الأوضاع.. لكن هذا التبدل لا يحدث. فقط حين يخدش حس العدالة لدينا، نتصرف بغضب.”
كيف يتحول المواطن الصامت الى غاضب؟
إن التعرض للظلم لا يؤدي بالضرورة الى الغضب، بل إن بروز النفاق هو السبب الرئيسي. نفاق السلطة، نفاق المؤتمرات الصحافية، نفاق السياسيين،..
هناك طرق كثيرة لإظهار هذا النفاق. بروفايلات وملفات كاملة للوزراء والنواب والمدراء العامين الأكثر فساداً في القطاع العام لإسقاطهم أخلاقياً وإعلامياً وشعبياً وسياسياً وقانونياً، وفضحهم بالأرقام والوقائع والأدلة حتى لا يبقى لهم ملاذ آمن بعد الآن، ليتحول كل واحد منهم في أذهان كل مواطن الى مُستَعمر أجنبي يحتل ويعيش بترف من دون وجه حق من ثرواتنا.
إبراز النفاق يأتي أيضاً على شاكلة الفيديو الذي انتشر لوزير الداخلية نهاد المشنوق في مؤتمره الصحفي الثاني والذي عرض فيه صورة لعنصر من قوات مكافحة الشغب مصاباً على الأرض و”لم يعتن به أحد” حسب تعبير الوزير. فكان الرد من جانب المواطنين بعَرض فيديو لمتظاهرين يساعدون العنصر المصاب. وهذا مثال على إظهار “نفاق” المشنوق الذي كذب على المواطنين، متلاعباً بعواطفهم بهدف شيطنة المتظاهرين وتبرير عنف الدولة المنظّم، نفاقها في كل مرة تقول أنها “تقوم بحماية المتظاهرين” وهي تضرب وتنتشي متى تنشقت رائحة الدم.
الدليل الأكبر على أهمية إظهار نفاق السلطة وإدعائها بالديمقراطية واحترام الحريات هو ازدياد أعداد المتظاهرين والشرائح التي شاركت في التظاهرات بعد العنف الذي تعرض له الشباب مع بداية الحركة الإحتجاجية في شهر آب.
إظهار نفاق السلطة والمسؤولين يحمي الحركة الإحتجاجية أيضاً. فمنذ حوالي السنتين، إتهم المجلس العسكري الحاكم في مصر حركة شباب 6 أبريل المعارضة بتلقي أموال وتدريبات عسكرية من جهات أجنبية. فما لبثت الحركة إن رفعت دعوى قضائية ضد نفسها أمام القضاء المصري بخصوص اتهامات التمويل حتى لا تبقى هذه الاتهامات “اعلامية” وتتركز في ذاكرة المواطنين. ولاحقاً، عند إثبات البراءة من هذه الإتهامات، يحق لنا الإدعاء على المسؤول او الجهة التي رمت بهذه الاتهامات. وهذا إبراز آخر لنفاق السلطة.
مزيد من كشف للنفاق يمكن تحقيقه عبر تسريبيات (مثل ويكيليكس) لمستندات او تسجيلات تظهر رشاوى او ترتيبات غير قانونية او كسب غير مشروع لمسؤولين في الدولة. مثال على ذلك صورة الشيك الذي نشرها الصحافي محمد زبيب والتي تظهر تلقي وزير الداخلية نهاد المشنوق حوالي المليون دولار عام 2002 من بنك المدينة.
كما يمكن الإستفادة من المستندات والدراسات التي يملكها أشخاص مثل الوزير السابق شربل نحاس حول الوزارات والمسؤولين، وتأمين وسيلة الكترونية لتسريب هكذا مستندات مع حماية للمسرّب وهويته.
لا لست مذنباً
من أسوأ التجارب التي يمكن أن تتعرض لها خلال الحركات الإحتجاجية، إضافة الى العنف الجسدي الذي تمارسه السلطة، هو العنف النفسي الصادر من داخل الحراك. إن تحميل المواطن مسؤولية تردي الأوضاع، حتى لو كانت منطقية الى حد ما، لا تساعد الحراك ولا تزيد من أعداد المشاركين فيه (وهي أعداد وصلت الى حدها الأقصى بالظروف الحالية). بل هي تُشعِر هؤلاء بالذنب والشلل ولا تدفعهم للمشاركة في الحراك.
حتى في مثال أسوأ من “النشاط المبني على الشعور بالذنب”، وخلال اول جلسة حوار للسلطة يوم الأربعاء 9 أيلول، قام أحد المتظاهرين المضربين عن الطعام بالصراخ في وجه باقي المتظاهرين لأنهم “لا يهتفون مثله بصوت عال” مع أنه أضرب عن الطعام منذ أيام. لم ينضم أحد من المتظاهرين الى الجائع الغاضب بعد حفلة الصراخ التي عرضها أمام المتظاهرين. أمثلة أخرى توضع في نفس الخانة شعارات مثل “يلي واقف ع البلكون” التي لم تحرك المواطن عن البلكون ولم تغيّر شكل جبنة البيكون.
إن الصورة الوحيدة المطلوبة من المتظاهر، او الناشط، او المضرب عن الطعام هي صورة شخص يهتم لحياته وحياته الآخرين، صورة شخص قوي ومثابر ومتفائل، شخص يتفهم غيره ويتعامل معهم بإيجابية. فإذا غابت هذه الصورة عن الذين يقدمون أنفسهم كأكثر الناس تضحية في الحراك، فسيحولون الحراك وأهدافه ومن فيه الى ضحية تصرفاتهم الإنفعالية. فلكل شاب او شابة ممن يشاركون في التظاهرات مشاكله الخاصة وهمومه، وضغوط يومية وأخرى متراكمة، معاناة من زحمة السير أو سلطة الأهل. بعضهم يحاول لمرة أخيرة أن يعيش بكرامة وأن لا يهاجر وبعضهم الآخر يتناول المهدئات. فلا تحولوا مساحة التعبير والحرية في التظاهرات الى سجن آخر من القمع والآراء المعلبة.
عليك أن تختار، أن تكشف النفاق وتحتضن الناس بدل إبعادهم عنك، أو أن تبقى أنت وحدك في الشارع، أنت… أو لا أحد.