“العلاقة بين الأم والطفل هي علاقة تناقضية، وإلى حد ما مأسوية. فهي تتطلب الحب الشديد من جانب الأم، ولكن على هذا الحب أن يساعد الطفل على النمو بعيدا عن الأم، وأن يصبح مستقلاً بشكل تام”.
– اريك فروم، المجتمع السليم (1955)
لعل معظمنا شاهد أكثر من مرة قصة “جاك وشجرة الفاصولياء” من إنتاج استوديوهات ديزني (ميكي وشجرة الفاصولياء، 1947) على شاشة التلفاز. لعل كثراً منّا يستذكر من فترة إلى أخرى كيف كان يستلقي على الأرض لساعات محدقاً في الشاشة إلى حين انتهاء “فترة الأطفال” على القناة المحلية. ولا ننسى أبداً العلاقة التناقضية بين الوقت المطلوب لإنجاز الفروض المنزلية من الإنشاء والإملاء والرياضيات واللغة الفرنسية، والوقت المطلوب لمشاهدة مغامرات شخصيات “والت ديزني” والرسوم المتحركة اليابانية المدبلجة: بدايات الشعور بالذنب والعار.
إلا أن علاقة تناقضية أخرى كانت تدور على هذه الشاشة التي كنا نحدق فيها ونحلم من خلالها، إذ نطلق العنان لخيال ملوّن سيرافقنا بنسب متفاوتة، إلى أن يموت وحيداً فينا بهدوء. يستبدل والت ديزني في فيلمه القصير “جاك وشجرة الفاصولياء العجيبة” شخصية جاك بالفأر ميكي وشخصية الأم بالبطة دونالد. وكما يقال، فلكل قصة عبرة ومعاني ورموز. وهذا الأمر واضح، خاصة في القصص الشعبية (الفولكلور) التي تستمد شخصياتها العادية والخيالية من ذاكرة وتجارب الشعوب.
ويعود أول ظهور موثق لقصة “جاك وشجرة الفاصولياء” إلى القرن التاسع عشر في انكلترا. وتتلخص القصة بالأحداث التالية: يعيش جاك الصغير وأمه وحيدين حياةً فقيرة من دون أب. يعتاشان من حليب بقرة وحيدة مثلهما. وبعد أن توقفت البقرة عن إنتاج الحليب، أرسلت الوالدة ابنها إلى السوق لبيع البقرة. وفي طريقه إلى السوق، يصادف جاك رجلاً كبيراً في السن يعرض عليه شراء البقرة مقابل “حبات فاصولياء سحرية”. يوافق الصبي الصغير ويعود إلى المنزل ويثور غضب والدته لأنّه لم يجلب معه مالاً، فترمي حبات الفاصولياء. أثناء الليل، تنمو من الحبات شجرة فاصولياء ضخمة ترتفع عالياً نحو السماء. فيتسلقها جاك ويكتشف قصراً يحوي كنوزاً ويسكنه رجل عملاق. يسرق جاك أغراضاً ثمينة بشكل متتابع، أثناء نوم العملاق إلى أن يكشفه في إحدى المحاولات ويلاحقه وهو عائد من أعلى شجرة الفاصولياء. يقطع جاك الشجرة ويقع العملاق من أعلى ويموت. في النهاية، يعيش جاك وأمه سعداء إلى الأبد يتلذذان من الثروة التي سرقها الابن من العملاق.
النمو في نظر فرويد
تظهر في مراحل هذه القصة الشعبية ما يشبه إلى حد كبير مراحل النمو النفسي- الجنسي الخمس التي وضع أسسها عالم النفس سيغموند فرويد بعد أكثر قرن من كتابة قصة جاك: الوادي الذي كان يسكنه جاك كان سعيداً إلى أن بدأت الأزمة. المشكلة هي أن البقرة لم تعد تنتج الحليب. وتتلاقى رمزية الحليب مع “المرحلة الفموية” وهي أولى مراحل النمو النفسي – الجنسي الخمس، وفق فرويد، أي مرحلة الفطام حين تتوقف الأم عن إرضاع الطفل، وهي ثاني أزمة بعد خروج الطفل من رحم الأم إلى الحياة.
ويعتبر بعض أخصائيّي التحليل النفسي الفرويدي أن رمي الأم لحبات الفاصولياء “السحرية” حسب رأي الطفل جاك يرمز إلى ارتباط الطفل ببرازه خلال المرحلة الشرجية، أو ما لا قيمة له وغير مرغوب به بالنسبة للكبار.
إلا أن الحبات تتحول إلى شجرة ضخمة تنتصب عالياً وتوصل جاك إلى “العملاق” الذي يرمز إلى صورة الأب. وحسب هذه المرحلة (القضيبية)، لا يستطيع الطفل أن يواجه الأب/ العملاق، فيسرق منه لكسب رضى أمه وإسعادها. ولكن السرقة عمل لا يجلب الاحترام فيضطر أخيراً إلى قطع الشجرة (رمز القضيب) ما يؤدي إلى موت العملاق.
وبقطع الشجرة، يكون جاك – الطفل قد عاد أيضاً إلى الوراء، أي إلى “المرحلة القضيبية”، إلى أمه بدلاً من أن ينمو. وحسب التقليد الفرويدي، فإن هذا العمل سيؤدي إلى حالة مرضية. إذ نجد أنه لم تتم حلحلة عقدة اوديب، أي انجذاب الابن إلى الأم، إلا بطريقة منحرفة: قتل صورة الأب – العملاق (Patricide) والعودة إلى منزل الأم “ليعيشا سعداء إلى الأبد”.
ومع أن قصة “جاك” ظهرت قبل ولادة فرويد، إلا أنّ التشابه كبير جداً مع “مراحل النمو حسب فرويد”. ما يدفعنا إلى التساؤل حول ما أعتبره عالم النفس كارل غوستاف يونغ “لاوعياً جماعياً” واحداً نتوارثه كبشر من خلال القصص الشعبية وغيرها من الأعمال الفكرية والتقاليد والتجارب. وتؤثر هذه القصص بشكل مباشر ودائم على تطور حياة الأفراد من خلال ترابط البُعد الفردي بالبُعد الجماعي. ففي قصة أوديب، شاء القدر أن يتفشى الطاعون في المملكة، وأن ينفذ أوديب الجريمتين الكبيرتين: قتل الأب ومعاشرة الأم. وهنا تظهر رمزية أخرى لقصة جاك، على المستوى الاجتماعي، إذ أن العملاق “فوق” يتحمل مسؤولية البؤس “تحت”. وهذا تشبيه للصراع الطبقي والتوزيع غير المتكافئ للثروات ليظهر جاك في فعل السرقة كنسخة عن شخصية “روبن هود” الذي يسرق ليوزع على الفقراء.
الحب هو الحل
ويوضح لنا عالم النفس اريك فروم في هذا الشأن إلى أنّ الحل هو في الحب، لا القتل ولا السرقة (Make love not war). وإنّنا إذا لم نعالج تناقضاتنا على المستوى الفردي- النفسي، لن نستطيع أن نعالج التناقضات على مستوى المجتمع. ولذلك، كلما أسقطنا حاكماً متسلطاً، جئنا بحاكم متسلط آخر مكانه. وكلما أردنا أن نوقف القتل، مارسنا القتل ودخلنا في دوامة عنف لا نهاية لها. رغم اختلاف العلماء الثلاثة في مفاهيم عدة، وتشكيك مدارس أخرى بعلمية “عقدة أوديب” ومنهج التحليل النفسي بشكل عام أو حتى تشبيهه “بخرافة تحلل الخرافات”، نعطي بعض الخيال فرصة أخرى:
تخيّل نفسك ذات صباح وأنت طفل تشاهد قصة جاك، ولا تعلم (حسب مذهب التحليل النفسي) أنك في هذا العمر تواجه في لاوعيك هذه العلاقات التناقضية. تخيّل قصة جاك وكل القصص التي شاهدتها وأخذَت مكانها في ذهنك. هل يعقل أننا كنا نتواصل مع شبكة لا مرئية اسمها “اللاوعي الجماعي”؟ هل يعقل أن يمرّ ذلك كله ذات صباح في رسوم متحركة للأطفال ونحن مستلقين على الأرض في ملابس النوم؟ هل يعقل أن متعة الرسوم المتحركة كانت في أنّنا كنا، في تلك اللحظات، أسياد أنفسنا نبحث في الخيال عن من نريد أن نكون عندما نكبر، بعد أن نقتل الطفل الذي صنعنا؟