كم من “أليكسي” خطف أحلامنا؟

beirut5alexy

“وأجمل رحلاتنا في القطار الذي فاتنا”

يوم عادي آخر. جلسة تمتدّ لساعات أمام شاشة الحاسوب. هذه هي ضرورات المهنة، وضرورات الإدمان على الشبكة. أبحث عن جزيرة “كريسماس” الأسترالية، بعد أن قرأت خبراً عن عصيان قام به سجناء ولاجئون عرب وآسيويون وُضعوا في هذه الجزيرة. يقول الخبر إنّ اللاجئين سيطروا لفترة وجيزة على الجزيرة. نعم “جزيرة كريسمس”. اسم جميل لمكان حزين. أبحث عن صور جديدة للاجئين هناك، مستعيناً بتطبيق Yomapic يساعد في البحث عن صور وشرائط فيديو مستنداً إلى المنطقة الجغرافية. لم أتوفق بالكثير من الصور.

أعود بالخريطة إلى لبنان. أتفقد قريتي ثم أتحوّل إلى الحدود اللبنانية الفلسطينية. أعد هذا النشاط أسمى من المطاردة (stalking) الإلكترونية الشخصية. بل هو أقرب إلى عين الله في السماء. أراقب الشعوب والجماعات من فوق. “تُفلت” حشريتك على حياة الناس الخاصة مضيفاً إليها بعداً جيوبوليتيكياً. كما يساهم البحث في الخريطة على الحاسوب في إشباع رغبتي الدائمة بالسفر، هواية لم أمارسها كثيراً. ولطالما خططت مطولاً واحتسبت كلفة السفر إلى الأماكن التي أرغب بزيارتها، وهي بمعظمها صحارى، من دون أن أسافر فعلاً. ربما أشعر بلذّة إبقائها على هيئة أحلام إلكترونية.

أراقب بشكل مباشر الحدود مع فلسطين، أكتشف لقطات لجنود إسرائيليين يلتقطون الصور في النقاط الحدودية وينشرونها على تطبيق “انستغرام”. “آه! صيد ثمين، خرق أمني. والله منّك هيّن يا موكسي”، أقول في سرّي وأنا أراقب الخريطة والصور.

أستخدم مهاراتي اللبنانية في كشف الطوائف والجنسيات. آه هذا جندي درزي، وهذا أثيوبي. أعرف ذلك من بشرته السوداء. أتذكر التقارير الإخبارية الإسرائيلية عن أن “السود” الذين يهاجرون إلى إسرائيل مضطهدون وأن السود في الجيش الإسرائيلي يوضعون في نقاط خطرة. تكرار لأساليب الجيش الأميركي في فييتنام.

أذهب إلى الشرق قليلاً. زاوية ضيقة تحاصرها الأراضي اللبنانية من جهتين. ما اسم هذه البلدة؟ مستوطنة المطلة، وتحتها “كريات شمونة” التي تبعد بضعة كيلومترات عن قرى كفركلا والعديسة الحدودية اللبنانية. فلنر كيف يقضي المستوطنون أوقاتهم.

أوسّع قطر التغطية في التطبيق إلى 5 كيلومتر. حسناً، صور “سيلفي” اعتيادية لشبان وشابات بالزي العسكري الإسرائيلي. فتاة تلتقط صورتها على المرآة في غرفة نومها. “عبّوطة” بين شاب وصبية. صبية أخرى تلتقط “سيلفي” مع تركيز على الكنزة القصيرة لإظهار بطنها المكشوف. شاب يركب الخيل. طرقات نظيفة ومساحات خضراء. علم إسرائيل يرفرف على هضبة. أعاين الصورة أكثر: أعتقد أن قرية لبنانية تظهر في الأفق.

عودة إلى الحميمية. قبلات حارة في المستوطنة. صور لأصدقاء داخل حلبة تزلج مقفلة. صور أفراد بالزي العسكري مجدداً. إذاً هكذا يكون “المجتمع العسكري الإسرائيلي” على مواقع التواصل.
أتنقّل مجدداً على الخارطة. صور لشاب في الشارع يعزف الغيتار على حافة زقاق قديم والى جانبه شابان. هنا تغيّر المشهد. يبدو الشارع قديماً والأبنية الحجرية تبدو موغلة في التاريخ. أتحقق من مكاني على الخريطة: إنها صفد.

من مشاركات سكان صفد صورة لوائل كفوري ملك الرومانسية، وفق ما كتب على صورته إضافة إلى كلمات باللغة العربية من إحدى أغنياته (لما نظراتك حاكوني، أنا شفت الدني أحلى)، ثم صورة لفتاة تشبه زميلتي في العمل. لا أعلم ما هو موقفها من الصراع العربي – الإسرائيلي الذي تحول إلى صراع فلسطيني إسرائيلي بمرور الزمن والصفقات والمحاضرات الأكاديمية.

ثم اكتشفت “أليكسي”. أليكسي رووينكو: مستوطن إسرائيلي من مواليد أوكرانيا في العام 1985. لون الشعر: أشقر. تاريخ الهجرة إلى فلسطين: غير محدد. علامات فارقة: تجده مبتسماً في جميع الصور ما عدا واحدة.

ما دفعني إلى مطاردة بصمات أليكسي الإلكترونية صورة له تظهر في خلفيتها خريطة لفلسطين عُلقت على الحائط إلى جانب صور شخصية أخرى. لم أعتد أن أرى خارطة فلسطين إلا معلّقة في بيوت أو مكاتب أصدقاء فلسطينيين أو “مناصرين” للشعب الفلسطيني. أما في هذه الحالة فالأمر مختلف: أليكسي الأوكراني، وطنه إسرائيل، والخريطة التي تدل على أرض وطنه هي خريطة لأرض فلسطين. لم تعد الخريطة رمزاً لي. تحولت فجأةً إلى رمز للمستوطن. الرمز نفسه لعدوّين لدودين.

أغوص أكثر. تدقيق أول: أليكسي ينشر صوره على شبكة “VKontakte” وليس على “فايسبوك” أو “انستغرام”. “VKontakte”، هي النسخة الروسية البديلة عن “فايسبوك”، وروادها هم سكان روسيا وأوروبا الشرقية. لا يزال أليكسي يستخدم “VKontakte” رغم حصوله على منزل في فلسطين.
تدقيق ثانٍ: أليكسي يكتب باللغة الأوكرانية. لكنّه يعيش في صفد، شمال فلسطين، على بعد بضعة كيلومترات من منزل أحد أصدقائي في جنوب لبنان.
تدقيق ثالث: أليكسي أتى من أوكرانيا التي تعيش حالياً حرباً أهليةً في شطرها الشرقي تشبه إلى حد ما الحرب الأهلية في لبنان.

حسناً، نقطة نظام، أحاول جمع ما وجدته من أدلة. أليكسي الأوكراني الذي يكتب باللغة الأوكرانية ويستعمل شبكة تواصل روسية يعيش في فلسطين بهدوء في حين تتساقط القذائف في أوكرانيا. المزيد من الصور تُظهر أليكسي مبتسماً. يتزلج على الجليد. ينظر إلى الأفق ويتأمل بحيرة طبريا. يشرب الفودكا التي أحضرها أقاربه له من أوكرانيا. يزور حيفا ويكتسب سمرة من أشعة الشمس الحامية فوق البحر المتوسط. هم، الإسرائيليون الذين أتوا قبله، وعدوه بحياة أفضل، بطقس دافئ وحلبة تزلج ووطن جديد. حدّثوه عن حقه التاريخي والديني في هذه الأرض. قالوا له إنّ بإمكانه الاحتفاظ بحسابه على “VKontakte” والتحدث باللغة الأوكرانية. وافق وأتى غالباً مع عائلته.

بهذه البساطة، تُسلب أحلام البعض وتتحقق أحلام بعضهم الآخر. بهذه البساطة، تكتشف قصص غرباء على الإنترنت لتُكوِّن شخصية (Persona) تميزهم عن غيرهم كالبصمة. تسافر في حياة غيرك وأنت تقبع مكانك. تتغير هوية أرض قيل إنها “سيدةُ الأرض، أم البدايات أم النهايات”. يمرّ الوقت وأسأل نفسي: كمّ من أليكسي خطف أحلامي؟

4٬913 مشاهدة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *