بيروت، هرم ماصلو، وحاصلو

يعاني أحمد (28 عاماً) من مرض الطموح… إضافة الى أمراض أخرى لا وقت لتعدادها الآن. مرض الطموح لدى أحمد يتمثل في محاولات دائمة (معظمها فاشلة) لتحسين حياته. ولا ينفك أحمد عن التذكير بأنه لن يحصل على الراحة النفسية ولن تتحسن حياته إلا إذا تحسنت أحوال من هم حوله. يبحث في العلوم والسياسة وما شابه عن الطرق التي ستساعده في الوصول الى مبتغاه.
سافر أحمد لبضعة أشهر الى كوكب آخر وعاد الى بلده المعتاد. وكأي كائن يغيب عن مكان تواجده المعتاد ويعود اليه، لاحظ أحمد أن أمورأ بسيطة وسلوكيات صغيرة كانت تشكل له حاجزاً ضخماً يمنع تقدمه وراحته النفسية. نقطتان أساسيتان تمثلان ملاحظات أحمد الأولية.

بيروت:
النقطة الأولى هي المناخ ولا أقصد بذلك قضية التغيّر المناخي بل “مناخ لبنان المعتدل” كما تعلمنا في الكتب المدرسية. يحتاج الإنسان الى درجة حرارة معينة لكي يعيش بطريقة سليمة. ويشعر أحمد بالبرد خلال فصل الشتاء في بيروت. ربما أكثر من غيره. وهو يملك في الشقة التي يسكن فيها “دفاية” كهربائية متحركة تعطيه بعضاً من الدفء والحنان في حال التصقت يداه بمعدنها الحامي. وهل تعلمون ما هو الشرط الأساسي في مجال التدفئة الكهربائية؟ أنت بحاجة الى الكهرباء! نعم هذا واضح ولكن وَجُب التذكير بذلك. إذ أن أحمد يعيش في منطقة يزورها التيار الكهربائي 12 من أصل 24 ساعة. والرقم 24 يمثل عدد الساعات في اليوم. ونعم وَجُب التذكير بذلك لكي نفهم حجم المشكلة. وفي ال12 ساعة الأخرى، يحصل أحمد على تيار “إشتراك” بقوة 5 أمبير (على إسم المدونة) قد تصل كلفته الى 100 دولار شهرياً. وهذا الإشتراك لا يسمح له بالإستفادة من الدفاية ودفئها. وهنا أيضاً نُذَكِر أن على أحمد أن يشترك في خدمتين لتأمين الكهرباء على عكس باقي دول كوكب الأرض.
لاحظ أحمد أنه يُعَقِد الأمور على نفسه وأن حلاً بسيطاً من شأنه أن يحسن الأمور بعض الشيء. ولاحظ أحمد أنه لم يفكر من قبل بهذا الحل وهذا دليل على أنه “سلّم أمره” سابقاً لـ”الأمر الواقع”. الحل يكمن في شراء “دفاية غاز” تعمل على الغاز كمصدر طاقة بدلاً عن الكهرباء. الله الله على الطاقة البديلة عن دولة بلا طاقة. الدفء الذي تقدمه دفاية الغاز أقوى من دفء الكهرباء وستكلف الدفاية الجديدة أحمد حوالي 150 الف ليرة إضافة الى 20 ألف ليرة شهرياً لتزويدها بالغاز.
حسناً، الحياة حلوة، ولكن يتوجب على أحمد أن يعالج الآن المعضلة الثانية التي تهز عرشه ووجدانه: الوصول الى الطعام.
يقضي أحمد جزءاً كبيراً من وقته في مكان عمله ويأكل بفضل خدمات التوصيل التي تقدمها المطاعم. والنتيجة هي أنه ينفق الكثير من المال على الأكل الجاهز وغير الصحي.  يطمح أحمد، ومرضه كما أشرنا سابقاً هو الطموح، أن يحضر أكله في منزله فينفق مالاً أقل ويأكل طعاماً شهياً وصحياً بدل “الديليفري” كل يوم.
إلا أنه يواجه مشكلة الوصول الى سوبرماركت تتوفر فيها كافة حاجياته. وأحمد صراحة بليد بعض الشيء وينهار طموحه بسرعة فيتنازل ويقوم بطلب بعض الوجبات السريعة. والسبب هو أنه لا يملك سيارة ولا يجد وسيلة عملية للوصول الى السوبرماركت البعيد، إضافة الى زحمة السير الدائمة على الطرقات وشعوره بالإرهاق بعد عودته من منزله.
إلا أن القدر قدّم له حلاً لمعضلته: خدمة طلب البقالة والمواد الغذائية على الإنترنت وتوصيلها الى منزله من دون أي كلفة إضافية. لا ضرورة بعد الآن للتنقل والانتظار في زحمة السير للحصول على غذاء صحي. هكذا استطاع أحمد ان يطبخ ويأكل في منزله ويحسّن صحته.

ماصلو:
بعد أن وجد حلاً للمعضلتين البسيطتين اللتين تؤثران على حياته اليومية، لاحظ أحمد الأمر التالي: يحدد هرم “تسلسل ماصلو للإحتياجات” أن المشاكل التي يعاني منها تقع في أدنى مستوى من الهرم، وهو هرم الإحتياجات الفيزيولوجية: الطعام، المأوى، الدفء… ولا يمكن للإنسان أن يحقق الحاجات العاطفية والإجتماعية والشعور بالقيمة الشخصية وحب الذات (وهي المستويات الأعلى في الهرم) قبل أن تتأمن الحاجات الفيزيولوجية (الغذاء والدفء).
أي نقص في تأمين هذه الحاجات الفيزيولوجية يعني بطبيعة الحال تراجعاً في حالة الإنسان النفسية والجسدية. وللتذكير بأهمية هذا الموضوع، نشير أنه وفي حال حدوث كوارث طبيعية، أول ما يتم العمل عليه هو تأمين او تخزين المواد الغذائية والكهرباء للحفاظ على الأرواح الى حين إجلائهم.

حاصلو:
بالعودة الى كوكب لبنان، يلاحظ أحمد أن ما يعيشه في لبنان يشبه الكارثة حسب تعريف “الكارثة” في دول أو كواكب أخرى. فالتيار الكهربائي الضروري للتدفئة متوفر لفترات محدودة ومتقطعة. والتنقل على الطرقات يشبه المعركة من أجل البقاء في ظل غياب طرقات آمنة ونقل عام يمكن التعويل عليه.
لاحظ أحمد أنه استطاع تحسين حياته بتعديلين بسيطين عليها. إلا ان قسماً كبيراً من مجتمعه غير قادر على إحداث تغيير في حياته، وللوضع المادي دور أساسي في ذلك. فقسم كبير من المجتمع عالق الآن في أسلوب حياة يصعب تعديله على المستوى الفردي، والأصعب الإشارة اليه كأزمة إجتماعية يجتمع حولها الأفراد كفريق واحد ويطالبون بتغييرها.
ولاحظ أحمد أيضاً (وهو شديد الملاحظة وفائق الذكاء كما تعلمون) أنه قدّم حلولاً بديلة ومؤقتة هي من واجبات ومسؤولية الدولة (السلطة، الحكومة، الإدارة العامة، الشو إسمو)، وأن “الدولة” وُجدت لتأمين هذه الإحتياجات الأساسية للإنسان. من واجب الدولة أن تؤمن لأحمد مصادر طاقة دائمة وبسعر معقول. من واجب الدولة أن تسهل تنقل أحمد على الطرقات والوصول الى الخدمات والمرافق من خلال النقل العام المريح والسريع.
بكل بساطة، فإن دولة أحمد غير قادرة على تأمين الحاجات الأساسية للإنسان.
حاصلو، يقول أحمد: خرى عليكم أصبحنا في العام 2017 يا دولة الخرى. عشتم وعاش لبنان