“آخر مرة شافوها، بكيت ضيعتنا، ضيعتنا كلا”
في كل مرة يموت فيها رمز من رموز لبنان، نستذكره بعبارات الفولكلور المعتادة: مياه العين واﻷرزة والجبل والضيعة والكبة النية واﻹغتراب وقطعة السما. وكلما دمرنا لبنان، نستذكر تشكيلة الفولكلور ذاتها ونردد نفس اﻷغاني والشعارات في حب الوطن. لبنان الكبة النية هو نفس لبنان الذي تُعَنَف وتُقتل نسائه بإسم التقاليد. ولبنان الضيعة هو نفسه الذي يدمر اﻷبنية التراثية التي يتغنى بها بحجة اﻹزدهار وتحريك عجلة اﻹقتصاد. هذا الـ”لبنان” انتهى منذ أكثر من 40 عاماً، وبقيت منه رواسب مظلمة من الكبت والعنف واللاتسامح المتراكم من جيل الى جيل.
انتهت صلاحية هذه الهوية البدائية التي رُوج لها وخُرِطَت في عقولنا من خلال كتب القراءة والتاريخ والجغرافيا. نكرر مراراً شعارات عن أن هناك “ازمة هوية في الكيان اللبناني”، ثم نعود الى جرن الكبة والدبكة والضيعة وفخر الدين. فهي الهوية الوحيدة المتوفرة حالياً وهي قادرة على لم شملنا ولو بطريقة شكلية. والحقيقة هي أن كل واحد منا، في غياب هوية جامعة، يعيش ضمن شبه-هوية خاصة به وحده، يحفظها داخله، ولا يشاركها مع غيره خوفاً من الرفض والحكم عليه. فلا يتحرر أحد من الهوية القديمة التي انتهت صلاحيتها، ولا يتواصل واحد مع اﻵخر لتشكيل هوية جديدة تجمعنا.
مع وفاة الفنانة صباح، كان لافتاً التعاطي العام مع هذه الشخصية. فرغم أنها غنت للضيعة والجيش والجبل، إلا أن صورة صباح في ذاكرتنا كانت في مكان آخر أيضاً. مكان بارد ومظلم في روحنا المحتضرة. فرغم محاولة المنظمين والفرقة الموسيقية التابعة للجيش اللبناني إضفاء الطابع الوطني على جنازة صباح بعَزف “تسلم يا عسكر لبنان”، إلا أن الرقص والتصفيق والزغاريد أبقت الجنازة في مكان آخر، وأبقت صباح رمزاً ﻷمر آخر.
كانت صباح رمزاً لبعض سكان هذا البلد وصورة لـ”لبنان” يحلم اولئك بأن يتحقق وأن يعيشوا فيه. كانت تمثل جيلاً ينمو في الظل، بعيداً عن صخب اﻹعلام والمنابر. لم يروا في “صباح” جرن الكبة بل رأوا معاناة تشبه ما يعيشونه هم يومياً من نبذ ورفض من المجتمع. ورأوا في تعاليها على الجراح وفي ضحكتها قدوة لهم ودافعاً للإستمرار. فهذا الجرن-المجتمع طحن صباح باﻹشاعات والقصص عن حياتها الخاصة كما طحنهم في منعهم من عيش حياتهم الخاصة على هواهم أو على اﻷقل، من دون أذى. كانت بكل بساطة إشاعات عن إمرأة عاشت حياتها حتى آخر لحظة من دون كبت، في وقت نقضي حياتنا كاﻷموات مختبئين وراء “السترة” و”العيب” و”الشرف” لنحمي أنفسنا مما تحتاج له فعلاً…من هوية جديدة متحررة. بعض اولئك الذين رأوا في صباح هذا الرمز شاركوا في جنازتها:
*** إجتمع مروان وفادي وعصام عبر مجموعتهم على “واتساب” بعد ان انتشر نبأ وفاة صباح واتفقوا على المشاركة في الجنازة يوم اﻷحد. يقول عصام مبرراً مشاركته:”لو في شخصيات اكتر متل صباح بلبنان كانت حياتنا كمثليين اسهل. صباح رمز للبنان اللي منتمنى نعيش في بلا أحكام. كل واحد حر بحياتو الشخصية.”
*** ناصر وآلاء يتشاركان شقة وهم في علاقة جدية منذ أكثر من 15 سنة. يعيشان حياتهم الزوجية، ولكن من دون عقد زواج رسمي. تتذكر آلاء الفنانة صباح مرددة قصة لقائها بها في احد المطاعم منذ فترة طويلة، وكيف أنها طرحت فكرتها (المساكنة) على صباح التي باركت الخطة قائلة “عملو اللي بدكن ياه طالما انتو مبسوطين”. يضيف ناصر:”بعمري ما صلّيت، ليش بدي اتزوج عند شيخ؟ العالم وصلت عالقمر ونحنا ممنوع الا شيخ يزوجنا؟ مجتمعنا مبني عالممنوع. صباح باركت زواجنا بلا اوراق. هيدا المهم.”***
*** تقف ماري (36 عاماً) تحت شجرة قرب الكنيسة وهي تراقب من بعيد التابوت المحمول على اﻷكتاف. اختارت ماري أن تعيش في شقة لوحدها وأن لا تتزوج. فهي تعتبر أن عملها في مجال التصميم هو رفيق دربها وأنها ليست بحاجة لرجل ليهتم بها. كان لتجربة صباح دور في التأثير على قرار ماري. إلا أن عائلتها، التي لا تتوقف عن مطالبتها بالزواج و”السترة”، تتهمها ب”اﻹنحراف”، بمعنى أنها مثلية. هذا النزاع كان السبب الذي دفع ماري لمغادرة منزل أهلها والعيش وحدها في المدينة.***
*** أقلت سيارة تاكسي السيدة وداد (68 عاماً) الى وسط بيروت للمشاركة في التشييع. لا يمكننا القول إن هذه السيدة كانت مولعة بصباح، إلا أنها شاركت في المراسم ﻹعجابها بوصية صباح بأن يدبك ويرقص الناس عند موتها. وأخذت حينها وداد قراراً بكتابة نفس الطلب في وصيتها، فهي لا تريد أن يبكي أحد من عائلتها او احبائها عليها. لا تريد أن تكون سبباً حتى لدمعة واحدة على خد واحدة من حفيداتها. تقول بصوت عال خلال مرور الجنازة: بدي اضحك وخلي اللي حولي يضحكو ﻵخر نفس.***