تُظهِر الليبرالية، الملاك البريء أبو قلب طيّب قوي، يوماً بعد يوم أن قيمها ومثلها العليا تتناقض مع الواقع الذي أنتجته. إذ تحولت المفاهيم الإقتصادية الليبرالية الى أضدادها في الممارسة. أدّى التبادل الحر الى ازدياد اللامساواة الإجتماعية، والإقتصاد الحر الى الإحتكار، والعمل المنتج الى الظروف التي تخنق الانتاج، وإعادة إنتاج الحياة الاجتماعية الى بؤس أمم بأسرها.
ومتى وجّهت الليبرالية أكاديمييها ومنظريها الى “مساندة” الإنسان في محنته، أكدت في ممارستها أولية الربح المادي كمعيار أساسي لتقدم المجتمعات.
هذا النقاش ليس نقاشاً نظرياً. هو طرح لنقاط أساسية سُئل الحراك عنها. وهذا النقاش أظهر إنقسامات موجودة أصلاً قبل الحراك، تُرجمت بالإعتراض على مجموعات وجمعيات تتلقى تمويلاً من جهات حكومية أجنبية مثل “USAID ” أو غيرها من أذرع الليبرالية. فكيف لنا أن نبني تحالفات مع جهات لا نرى فيها أثراً ايجابياً على الإنسان والمجتمعات؟
وإذا أردنا أن نقترب أكثر من أرض الواقع وتحديداً من الأراضي اللبنانية، نلاحظ ارتباط الطباع الفاشية بالرأسمالية المحلية. إذ أن الإقتصاديين الليبراليين اللبنانيين يرون في آدم سميث ما يراه المستهلكون والشباب في هاشتاغ livelovelebanon: عالم غير محدود من الفرح المعلّب والأسواق الحرة.
لذلك، فإن تظاهرك رفضاً لعنف القوى الأمنية واستخدامها المفرط للقوة ضد المتظاهرين وتوقفك عند هذا الحد يشير الى فهم غير كامل لطبيعة الصراع الذي تحاول أن تكون طرفاً فيه. وقد ظهر عنف السلطة الأمنية عندما استهدف الحراك السياسات الإجتماعية والإقتصادية للسلطة السياسية. أي أن اعتراضك على العنف الجسدي يبقى ناقصاً ما لم يشمل العنف الإقتصادي-الإجتماعي الذي تمارسه السلطة يومياً. ومع ارتفاع سقف المطالب أبعد من ملف النفايات، زاد عنف السلطة وتعددت أوجهه وتنوعت الأصوات المدافعة عنه. فظهرت الهيئات الإقتصادية و”أبو رخوصة” وأنصار “الزعيم الأخضر”.
ويقول ماكس هوركهايمر: “ينشأ التحالف بين المنظمات البورجوازية والفاشية عن الخوف من البروليتاريا.” ويشرح فريدريش بولوك أنه “في ظل الشكل الشمولي لرأسمالية الدولة، تصبح الدولة أداة سلطة لمجموعة حاكمة جديدة، نشأت عن اندماج المصالح الراسخة الأقوى نفوذاً، الإداريون في القمة، الفئات العليا من بيروقراطية الدولة (والجيش)، وقيادة الحزب المنتصر. وكل شخص لا ينتمي الى هذه المجموعة ليس سوى مجرد موضوع للسيطرة.”
وهذا التحالف موجود فعلياً في لبنان، بل هو أكثر تداخلاً في نسيج السلطة اللبنانية. إذ أن أصحاب رأس المال وأصحاب الحقائب الحكومية هم أنفسهم (أو ينوب عنهم أولادهم أو أقاربهم أو المنتسبين الى أحزابهم). ومن هم في السلطة السياسية هم ذاتهم الذين يسنون القوانين خدمة لمصالح أصحاب رأس المال، ويوظفون مناصريهم في الإدارات العامة وقوى الأمن التي تقمع من يعارضهم ومن يعترض على أرباحهم.
أبسط وأحدث مثال على هذا التداخل بين السلطة الفاشية والرأسمالية هو مناقصة معالجة النفايات حيث وجدنا أن كل شركة قدمت عرضاً كانت مملوكة من طرف من أحزاب السلطة. وعندما علا صوت نقولا الشماس ضد المتظاهرين، نفذ مناصرو نبيه برّي هجوماً بالسكاكين على المتظاهرين. (إلى أن رَدَعَتهم القوى الأمنية متأخرة بخجل ومن دون ضرب وهراوات).
عزيزي المشارك في التظاهرات (حتى لو انتهى الحراك أصلاً) إعلم أن طبيعة الصراع هي كالتالي: أنت جزء من طبقة السياسيين وقيادات الأحزاب والفئات العليا من البيروقراطية ورؤوس وإداريي القمة في القطاع الخاص. أو أنت جزء من الشعب. فتحالفك مع الليبرالية فكراً أو ممارسة، من خلال التنصل من ربط الإقتصاد الليبرالي بفساد وعنف النظام، لا يبني عالم الإنسان، بل يبني عالم رأس المال.